سورة التغابن - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التغابن)


        


{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}
قوله: {فَئَامِنُواْ} يجوز أن يكون صلة لما تقدم لأنه تعالى لما ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وذلك لكفرهم بالله وتكذيب الرسل قال: {فَئَامِنُواْ} أنتم {بالله وَرَسُولِهِ} لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة {والنور الذي أَنزَلْنَا} وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث، ثم ذكر في الكشاف أنه عنى برسوله والنور محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي بما تسرون وما تعلنون فراقبوه وخافوه في الحالين جميعاً وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} يريد به يوم القيامة جمع فيه أهل السموات وأهل الأرض، و{ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} والتغابن تفاعل من الغبن في المجازاة والتجارات، يقال: غبنه يغبنه غبناً إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن قوماً في النار يعذبون وقوماً في الجنة يتنعمون، وقيل: هو يوم يغبن فيه أهل الحق، أهل الباطل، وأهل الهدى أهل الضلالة، وأهل الإيمان. أهل الكفر، فلا غبن أبين من هذا، وفي الجملة فالغبن في البيع والشراء وقد ذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة واشتروا الضلالة بالهدى، ثم ذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ودل المؤمنين على تجارة رابحة، فقال: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة} [الصف: 10] الآية، وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك، ويعمل صالحاً أي يعمل في إيمانه صالحاً إلى أن يموت، قرئ يجمعكم ويكفر ويدخل بالياء والنون، وقوله: {والذين كَفَرُواْ} أي بوحدانية الله تعالى وبقدرته {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} أي بآياته الدالة على البعث {أولئك أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير} ثم في الآية مباحث:
الأول: قال: {فآمنوا بالله رسوله} بطريق الإضافة، ولم يقل: ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة مع أن النور هاهنا هو القرآن والقرآن كلامه ومضاف إليه؟ نقول: الألف واللام في النور بمعنى الإضافة كأنه قال: ورسوله ونوره الذي أنزلنا.
الثاني: بم انتصب الظرف؟ نقول: قال الزجاج: بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ} وفي الكشاف بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ} أو بخبير لما فيه من معنى الوعيد. كأنه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار اذكر.
الثالث: قال تعالى في الإيمان: {وَمَن يُؤْمِن بالله} بلفظ المستقبل، وفي الكفر وقال: {والذين كَفَرُواْ} بلفظ الماضي، فنقول: تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
الرابع: قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن} بلفظ الواحد و{خالدين فِيهَا} بلفظ الجمع، نقول: ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
الخامس: ما الحكمة في قوله: {وَبِئْسَ المصير} بعد قوله: {خالدين فِيهَا} وذلك بئس المصير فنقول: ذلك وإن كان في معناه فلا يدل عليه بطريق التصريح فالتصريح مما يؤكده.


{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}
قوله تعالى: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بأمر الله قاله الحسن، وقيل: بتقدير الله وقضائه، وقيل: بإرادة الله تعالى ومشيئته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعلمه وقضائه وقوله تعالى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} أي عند المصيبة أو عند الموت أو المرض أو الفقر أو القحط، ونحو ذلك فيعلم أنها من الله تعالى فيسلم لقضاء الله تعالى ويسترجع، فذلك قوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} أي للتسليم لأمر الله، ونظيره قوله: {الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} إلى قوله: {أولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 156، 157]، قال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما يهد قلبه إلى ما يحب ويرضى وقرئ {نهدِ قَلْبَهُ} بالنون وعن عكرمة {يُهْدَ قَلْبَهُ} بفتح الدال وضم الياء، وقرئ {يهدأ} قال الزجاج: هدأ قلبه يهدأ إذا سكن، والقلب بالرفع والنصب ووجه النصب أن يكون مثل {مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يحتمل أن يكون إشارة إلى اطمئنان القلب عند المصيبة، وقيل: عليم بتصديق من صدق رسوله فمن صدقه فقد هدى قلبه: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} فيما جاء به من عند الله يعني هونوا المصائب والنوازل واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى، ومن الرسول فيما دعاكم إليه.
وقوله: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} الظاهر والبيان البائن، وقوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} يحتمل أن يكون هذا من جملة ما تقدم من الأوصاف الحميدة لحضرة الله تعالى من قوله: {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] فإن من كان موصوفاً بهذه الصفات ونحوها: فهو الذي {لا إله إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود إلا هو ولا مقصود إلا هو عليه التوكل في كل باب، وإليه المرجع والمآب، وقوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} بيان أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه، ولا يتقوى إلا به لما أنه يعتقد أن القادر بالحقيقة ليس إلا هو، وقال في الكشاف: هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه، فإن قيل: كيف يتعلق {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بما قبله ويتصل به؟ نقول: يتعلق بقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} [التغابن: 8] لما أن من يؤمن بالله فيصدقه يعلم ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}
قال الكلبي: كان الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به بنوه وزوجته فقالوا: أنت تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهله ويقيم فحذرهم الله طاعة نسائهم وأولادهم، ومنهم من لا يطيع ويقول: أما والله لو لم نهاجر ويجمع الله بيننا وبينكم في دار الهجرة لا ننفعكم شيئاً أبداً، فلما جمع الله بينهم أمرهم أن ينفقوا ويحسنوا ويتفضلوا، وقال مسلم الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان أهله وولده يثبطونه عن الهجرة والجهاد، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم فهو قوله: عدواً لكم فاحذروهم أن تطيعوا وتدعوا الهجرة، وقوله تعالى: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ} قال هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه الهجرة وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير فنزل: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ} الآية، يعني أن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، ينهون عن الإسلام ويثبطون عنه وهم من الكفار فاحذروهم، فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان، ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدواً لهم، وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا عن الهجرة نزل: {إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تطيعوهم في معصية الله تعالى وفتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة، وقيل: أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جميع ما يقع بهم في الفتنة وهذا عام يعم جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله، كغصب مال الغير وغيره: {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي جزيل، وهو الجنة أخبر أن عنده أجراً عظيماً ليتحملوا المؤونة العظيمة، والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم. وقوله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم} قال مقاتل: أي ما أطقتم يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع، قال قتادة: نسخت هذه الآية قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ومنهم من طعن فيه وقال: لا يصح لأن قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لأنه فوق الطاقة والاستطاعة، وقوله: {اسمعوا} أي لله ولرسوله ولكتابه وقيل: لما أمركم الله ورسوله به {وَأَطِيعُواْ} الله فيما يأمركم {وَأَنْفِقُواْ} من أموالكم في حق الله خيراً لأنفسكم، والنصب بقوله: {وَأَنْفِقُواْ} كأنه قيل: وقدموا خيراً لأنفسكم، وهو كقوله: {فآمنوا خيراً لكم} [النساء: 170] وقوله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشح هو البخل، وإنه يعم المال وغيره، يقال: فلان شحيح بالمال وشحيح بالجاه وشحيح بالمعروف، وقيل: يوق ظلم نفسه فالشح هو الظلم، ومن كان بمعزل عن الشح فذلك من أهل الفلاح فإن قيل: {إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ}، يدل على أن الأموال والأولاد كلها من الأعداء و{إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} يدل على أن بعضهم من الأعداء دون البعض، فنقول: هذا في حيز المنع فإنه لا يلزم أن يكون البعض من المجموع الذي مر ذكره من الأولاد يعني من الأولاد من يمنع ومنهم من لا يمنع، فيكون البعض منهم عدواً دون البعض.

1 | 2 | 3